ثالثا: طريق أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني
رواه عنه اثنان واختلفا في متنه وهما:
معمر بن راشد الأزدي الحداني
عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان
رواية معمر بن راشد الأزدي الحداني عن أيوب
رواه معمر عن أيوب فلم يذكر هو أيضا لفظ احتساب الطلقة بل ذكر ما هو موافق في المعني لما ذكره أبو بشر و يونس عن سعيد بن جبير.
فقال الإمام عبد الرزاق (المتوفي211) - رحمه الله -:
عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، وسعيد بن جبير، أن ابن عمر كان طلق امرأته التي طلق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حائضا، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يراجعها، ثم يتركها، حتى إذا حاضت، ثم طهرت طلقها قبل أن يمسها قال: «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق النساء لها» [مصنف عبد الرزاق، ت الأعظمي: 6/ 308 وإسناده صحيح علي شرط الشيخين]
رواية عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان عن أيوب
رواه عبد الوارث عن أيوب فزاد ذكر احتساب الطلقة خلافا للجميع فقال الإمام البخاري - رحمه الله -:
وقال أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: «حسبت علي بتطليقة» [صحيح البخاري (نشردارطوق النجاة) 7/ 41 رقم 5253 النسخة الهندية ج2ص790]
قلت: قد سبق أن هذه الرواية معلقة ولا يوجد لها إسناد موصول صحيح أما ما ذكروه أن الإمام أبا نعيم وصله فليس بين أيدينا هذ الإسناد بتمامه حتي ينظر في جميع رجال السند. علي هذا رواية عبدالوارث هذه لا تثبت أصلا.
ولو ثبتت فما ذكره من لفظ احتساب الطلقة قد خولف فيه في جميع طبقات السند
فقد خالفه من رواه معه عن أيوب كما تقدم
كما خالفه الرواة عن سعيد بن جبير كما تقدم
وكذلك خالفه الرواة عن ابن عمر - رضي الله عنه -
فقد رواه عن ابن عمر - رضي الله عنه - عشرة نفر ولم يذكر أحد منهم لفظ احتساب الطلقة وهم:
(1) نافع مولي ابن عمر - رحمه الله - (صحيح البخاري 7/ 41 رقم 5251)
(2) سالم بن عبد الله - رحمه الله - (صحيح البخاري 6/ 155رقم 4908)
(3) يونس بن جبير - رحمه الله - (صحيح البخاري 7/ 59 رقم 5333)
(4) أنس بن سيرين - رحمه الله - (صحيح مسلم 2/ 1097رقم1471)
(5) عبدالله بن دينار - رحمه الله - (صحيح مسلم 2/ 1095رقم 1471)
(6) طاوس بن كيسان - رحمه الله - (صحيح مسلم 2/ 1097رقم 1471)
(7) محمد بن مسلم أبو الزبير - رحمه الله - (مصنف عبد الرزاق 6/ 309 رقم 10960 وإسناده صحيح)
(8) شقيق بن سلمة أبو وائل - رحمه الله - (مصنف ابن بي شيب. سلفية: 5/ 3 وإسناده صحيح)
(9) ميمن بن مهران - رحمه الله - (السنن الكبري للبيهقي، ط الهند: 7/ 326 وإسناده صحيح)
(10) مغيرة بن يونس - رحمه الله - (شرح معاني الآثار 3/ 53 رقم 4464 وإسناده حسن)
فعبد الوارث هو الوحيد الذي يذكر هذا اللفظ ولم يتابعه أحد بل خالفه الرواة في جميع الطبقات.
فلا يمكن القول بتصحيح روايته علي أية حال.
بهذة العلة أعل ابن القيم-رحمه الله- هذه الرواية فقال:
«وفي لفظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر: " فحسبت علي بتطليقة " , ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جبير عنه , وخالف نافع وأنس بن سيرين ويونس بن جبير وسائر الرواة عن ابن عمر , فلم يذكروا " فحسبت علي "» [عون المعبود مع حاشية ابن القيم (6/ 171 - 172)، تهذيب السنن لابن القيم (ص: 868 - 870)]
وما يدرينا لعل الإمام البخاري ما عدل عن صيغة التحديث إلي صيغة التعليق في هذه الرواية إلا للإشارة إلي شذوذ هذا اللفظ، كما ذكر الدكتور شريف حاتم العوني في أسباب معلقات الأسانيد في صحيح البخاري فقال:
«السبب الثاني: يقول الحافظ ابن حجر: أنه وجد الإمام البخاري إذا حصل اختلاف في الحديث في إسناده، أو في متنه، فإنه يخرج في صحيحه الرواية الراجحة مسندة متصلة، ثم يعلق الرواية المرجوحة ليبين لك أنه على علم بالخلاف، لا يأتي واحد ويقول: والله الإمام البخاري فاته الخلاف ولعل الرواية التي تركها هي الأرجح من الرواية التي ذكرها، فيذكر الرواية المرجوحة معلقة حتى يعرف القارئ أن الإمام البخاري كان على اطلاع بهذه الرواية وإنما تركها لأنها عنده مرجوحة أي خطأ ووهم ممن رواها.» [مصادر السنة ومناهج مصنفيها: ص: 16 ترقيم الشاملة]
قلت: فلا يبعد أن يكون حامل البخاري علي تعليق هذه اللفظة أيضا هو السبب نفسه. فإنه بوب «إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق» فذكر حديثا مسندا موصولا علي شرطه، ثم أعقبه بتعليق هذا الحديث، ولم يذكر في الباب سوي هذين الحديثين.
وما نقل الدكتور من كلام ابن حجر لم أهتد إلي مصدره فلعله نقل بالمعني والله أعلم.
وقد كتب الباحث سعيد محمد علي بواعنة رسالة للحصول علي درجة الدكتوراة في الحديث بعنوان: «تعليق الإمام البخاري عن شيوخه في كتابه الجامع الصحيح دراسة نظرية و تطبيقية»
وذكر في فهرس المحتويات:
الفصل الثالث: تعليق الإمام البخاري عن شيوخه لأغراض تعلق بالمتن
المبحث الثاني: بيان الاختلاف علي الشيخ في المتن
المبحث الخامس: بيان النكارة في المتن
وليس هذا البحث في متناول يدي وإنما وقفت علي فهرسه.
فلاجرم إذن أن البخاري لم يعلق هذا الحديث إلا لبيان شذوذ هذه اللفظة «حسبت علي بتطليقة».
ويؤيده أن الإمام البخاري اختصر هذا الحديث فلم يذكر إلا لفظ «حسبت علي بتطليقة» مع أن الحديث أطول من هذا كما هو عند أبي نعيم الذي وصله، كما ذكر الحافظ ابن حجر والعلامة العيني.
فذكر البخاري حديثا مسندا في الباب ثم تعليقه لهذا الحديث واختصاره و اقتصاره علي هذا اللفظ «حسبت علي بتطليقة»، ليس المقصود منه اللهم إلا الإشارة إلي شذوذه. وإذا رأينا الحديث من طرق أخري فنجد أن شيخ البخاري تفرد بذكر هذا اللفظ و خولف في جميع طبقات السند، فهذا تفرد شديد منه، فنكاد نجزم بأن مقصود البخاري من هذا التعليق هو بيان شذوذ هذا اللفظ. والله أعلم.
والعجيب أن البعض يعلون حديث طاووس عن ابن عباس في الطلاق الثلاث المخرج في صحيح مسلم بل بعض المعاصرين يعدونه موضوعا وباطلا مع كونه في صحيح مسلم بحجة أن سائر الرواة عن ابن عباس لم يذكروه.
وهذا ليس بشيء لأن هؤلاء لم يرووا عن ابن عباس حديثا مرفوعا مخالفا لمارواه طاووس عن ابن عباس وإنما رووا فتواه فهما روايتان مستقلتان منفصلة إحداهما عن الأخري تماما. فكيف تعل هذه بتلك؟
وهذا كما رواه ابن أبي شيبة من طريق نافع أنه قال:
قال ابن عمر: من طلق امرأته ثلاثا، فقد عصى ربه، وبانت منه امرأته [مصنف ابن أبي شيبة. سلفية: 5/ 11]
وسائر الرواة عن ابن عمر يذكرون حديثه المرفوع في طلاق الحيض بل هو متواتر عن ابن عمر.
فهل يقال أن رواية نافع هذه معلولة لأن سائر الرواة عن ابن عمر يخالفونه؟
كلا! بل يقال هنا أيضا أن هذه رواية مستقلة لفتواه وباقي الرواة عن ابن عمر رووا حديثه المرفوع
وكذا القول في رواية طاووس عن ابن عباس في صحيح مسلم بأنها رواية مستقلة في طلاق الثلاث، وباقي الرواة عن ابن عباس إنما رووا فتواه.
وإني أتعجب كل العجب من أولئك الذين يضعفون حديث طاووس في الطلاق الثلاث من صحيح مسلم بحجة المخالفة رغم عدم وجودها، ثم لا يضعفون بنفس الحجة هذا الحديث الذي لم يوصله البخاري بل رواه معلقا من طريق عبدالوارث عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وسائر الرواة عن ابن عمر هنا لم يذكروا لفظ احتساب الطلقة، بل الرواة عن سعيد بن جبير أيضا لم يذكروه، وكذلك من روي عن أيوب أيضا لم يذكره. فهذا كما نري تفرد شديد من عبدالوارث، و خولف مخالفة شديدة من رواة جميع الطبقات، فأي حديث أولي بالتضعيف بحجة المخالفة؟
هذا ما ظهر لي، فإن أصبت، فمن الله وفضله وله الحمد وهووليي، وإن أخطأت، فمن نفسي، والله تعالي أسأل أن يغفر لي ذنبي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي؛ إنه عفو كريم غفور رحيم، ومن كان عنده فضل علم؛ فليتفضل به ونحن له إن شاء اللّه من الشاكرين ونسأل المولي سبحانه و تعالي أن يأخذ بأيدينا و يهدينا إلي الحق الذي اختلف فيه الناس، إنه يهدي من يشاء إلي الصراط المستقيم، و الحمدلله رب العالمين.
وكتبه: أبوالفوزان السنابلي