رقم الحديث: 70
(حديث مرفوع) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنِي بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ زِيَادٍ ، مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ ، وَمَلائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ ، أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ ، وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، أَعْتَقَ اللَّهُ رُبُعَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ النَّارِ ، فَإِنْ قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَعْتَقَهُ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ النَّارِ " .
لنک
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة السادسة
(بعض أذكار الصباح والمساء والثابت منها)
حديث: "من قال حين يُصبح: اللهم إني أصبحتُ أُشْهِدكَ، وأُشْهِد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خَلْقك: أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدًا عبدُك ورسولُك؛ أعتق الله ربعه ذلك اليوم من النار، فإن قالها أربع مرات؛ أعتقه الله ذلك اليوم من النار".
هذا الحديث ونحوه جاء مطوّلاً ومختصرًا من حديث جماعة من الصحابة – رضي الله عنهم- كلها لا تسلم من ضعف، ومن هذه الأحاديث ما يصلح أن ينجبر ضعفه، ومنها ما دون ذلك، كما سيظهر من الكلام عليها – إن شاء الله تعالى-.
وهناك من الأئمة من حسَّنه وجَوَّده، وهناك من ليَّنه وضعفه، وتميل نفسي إلى ثبوت أصل الحديث، باللفظ السابق مع بعض الزيادات، ومنها ذكر الماء أيضًا، والتفصيل في تجزئة العتق رُبُعًا رُبُعًا.
فأقول وبالله التوفيق:
لقد جاء هذا الحديث ونحوه مطولاً ومختصرًا من حديث جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله عنهم جميعًا- وهم: أنس بن مالك، وسلمان الفارسي، وأبو سعيد، وعائشة.
أولا: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه- وقد جاء من طريقين:
الأولى: من طريق بقية بن الوليد حدثني مسلم بن زياد مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .... فذكره.
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" برقم (1201) عن إسحاق بن راهوية عن بقية عن مسلم بن زياد به، أي بعنعنة بقية، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (6/6/برقم 9837) عن إسحاق بتصريح بقية بالسماع، وكذا في "عمل اليوم والليلة" برقم (9) وكذا ابن السني في "عمل اليوم والليلة" برقم (70) وأخرجه البغوي في "شرح السنة" (5/110/برقم 1323) من طريق يزيد بن عبد ربه عن بقية عن مسلم بن زياد به، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/97) من طريق لُوَيْن، وهو محمد بن سليمان بن حبيب عن بقية أخبرني مسلم بن زياد به، وفي (58/97) رواية أخرى من طريق محمد بن عمرو بن حنان عن بقية عن مسلم بن زياد به، وأخرجه الضياء المقدسي في "المختارة" (7/210/2649) من طريق لوين عن بقية أخبرني مسلم بن زياد به، وبرقم (2650) من طريق إسحاق أخبرنا بقية حدثني مسلم بن زياد به، وأخرجه الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/376) من طريق لوين عن بقية حدثنا مسلم بن زياد، وفي لفظه مغايرة، وأخرجه جعفر الفريابي: حدثنا عمرو بن عثمان وعبد الرحيم بن حبيب، قالا: حدثنا بقية عن مسلم بن زياد به، ذكره الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/377).
وهكذا اختلف تلامذة بقية عليه في تصريحه بالسماع من شيخه مسلم بن زياد، بل اختُلف على إسحاق بن راهوية نفسه، وهو أحد تلامذة بقية، وسأتكلم عن هذا – إن شاء الله تعالى- بعد ذِكْر بقية المصادر التي أخرجت حديث بقية بالعنعنة، وبلفظ: "من قال حين يصبح: اللهم إني أُشْهِدك..." الحديث، وفيه: "إلا غَفَر الله له ما أصاب من ذنب، وإن قالها حين يمسي غَفَر الله له ما أصابه – يعني تلك الليلة-".
أخرجه أبو داود برقم (5078): حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية عن مسلم بن زياد به، وأخرجهالنسائي في "الكبرى" (6/6/9838): أخبرني عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد عن بقية عن مسلم بن زياد، وكذا في "عمل اليوم والليلة" برقم (10) وأخرجه الترمذي برقم (3501) من طريق حيوة بن شُريْح الحمصي عن بقية عن مسلم بن زياد، والطبراني في "الأوسط" (7/176/برقم 7205) من طريق محمد بن مهران الجمال حدثنا بقية عن مسلم بن زياد به.
ومن تأمل المواضع السابقة تبين له عدة أمور:
أ- أنه لا خلاف على بقية في تصريح مسلم بن زياد بالسماع من أنس، فانتفت بذلك شبهة التسوية من بقية في هذا الموضع من السند.
ب- الاختلاف على بقية في السماع من مسلم بن زياد:
فقد رواه إسحاق بن راهوية من رواية النسائي عنه بتصريح بقية بالسماع، وكذا رواه لُوْين، ولوين ثقة، وإسحاق إمام، لكن النسائي قد خالفه الإمام البخاري، فرواه عن إسحاق بعنعنة بقية، فلعل هذا الاضطراب من بقية، أو تُرَجِّح رواية البخاري عن إسحاق على رواية النسائي عنه لمزية البخاري في ملازمة إسحاق، ولمكان البخاري في هذا الشأن.
وقد رواه عن بقية بالعنعنة عدد كبير – إضافة إلى رواية البخاري عن إسحاق عن بقية- وهم:
1- عمرو بن عثمان، (وهو صدوق).
2- كثير بن عبيد، (وهو ثقة).
3- محمد بن عمرو بن حنان، (وهو ثقة).
4- يزيد بن عبد ربه، (وهو ثقة).
5- حيوة بن شريح، (وهو ثقة ثبت).
6- محمد بن مهران الجمال، (وهو ثقة حافظ، لكن تلميذه في السند إليه هو شيخ الطبراني: محمد بن جابان، مجهول الحال).
7- عبد الرحيم بن حبيب، (وهو يروي عن بقية الموضوعات، كما في "اللسان" إلا أن العمدة على ما تقدم).
ومن نظر في هذا كله قوي عنده الظن بأن المحفوظ عن بقية رواية هذا الحديث بالعنعنة بينه وبين مسلم بن زياد، وإن كان الحافظ قد ذهب في "نتائج الأفكار" (2/377) إلى خلاف هذا، فقال: "وبقية صدوق، أخرج له مسلم، وإنما عابوا عليه التدليس والتسوية، وقد صرَّح بتحديث شيخه له، وبسماع شيخه، فانتفت الريبة..."اهـ.
قلت: أما من انتفاء شبهة التسوية من بقية فنعم، وذلك للتصريح بسماع مسلم بن زياد من أنس، وسيأتي الجواب عمن غمز في ذلك لجهالة مسلم عنده، وأما الريبة من العنعنة فلا تنتفي مع رواية ثمانية عنه بالعنعنة، وتبقى العنعنة من بقية – وهو مدلس- علة لا نتجاوزها في هذا الطريق.
ج- أن في هذه المصادر السابقة يُروى الحديث تارة: "اللهم إني أُشْهِدك" وتارة: "اللهم إني أصبحت أُشْهِدك" وتارة: "اللهم إنا أصبحنا نُشْهِدك" والحديث بهذه الزيادة محفوظ إلى بقية، ويبقى ما بعد ذلك.
د- هناك اختلاف يسير في الثواب المترتب على هذا الذِّكْر:
1- فعند النسائي باللفظ المذكور: "... أعتق الله ربعه ذلك اليوم من النار، فإن قالها أربع مرات؛ أعتقه الله ذلك اليوم من النار".
2- وعند البخاري في "الأدب المفرد": "... إلا أعتق الله ربعه في ذلك اليوم، ومن قالها مرتين؛ أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها أربع مرات؛ أعتقه الله من النار في ذلك اليوم" ولم يذكر "ثلاث مرات".
3- وعند ابن عساكر، والضياء، والحافظ ابن حجر بلفظ: "من قالها مرة؛ أعتق الله ربعه من النار في ذلك اليوم، فإن قالها مرتين؛ عُتق نصفه، فإن قالها ثلاثًا؛ عُتق ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربع مرات؛ أعتقه الله ذلك اليوم من النار".
وعندي أن هذا الخلاف لا يضر؛ فإن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الرواية الأولى لمن قال هذا الذِّكْر – أي مرة واحدة-: "أعتق الله ربعه ذلك اليوم من النار" يشير إلى أنه لو قاله مرتين؛ عُتق نصفه، وهكذا، وهذا ما صرحتْ به رواية البخاري في "الأدب المفرد" وكلا الروايتين تشيران إلى أن من قال ذلك ثلاث مرات؛ أُعْتِق ثلاثة أرباعه من النار، وهذا ما صرحت به الرواية الأخيرة عند ابن عساكر والضياء وغيرهما، فالإجمال في بعض الروايات لا يضر الزيادة المفصَّلة في التجزئة؛ لأن في الإجمال ما يشير بصحة معنى ما ورد في التفصيل، فقوْل الذِّكر مرة يكون سببًا في عتق ربع القائل، فمن قاله أربع مرات؛ أعتق كله، والله أعلم.
هـ- في الرواية الثانية لبقية ورد الثواب لمن قال هذا الذكر بلفظ آخر، وهو: "غُفر له ما أصاب في يومه من ذنب ... وغُفر له ما أصاب تلك الليلة من ذنب".
إلا أن الطرق الأخرى – كما سيأتي إن شاء الله تعالى- تقوي اللفظ الأول بخلاف هذا اللفظ، والله أعلم.
و- في كون هذا الذكر من أذكار الصباح والمساء، أو الصباح فقط خلاف:
1- فقد رواه ابن عساكر من رواية محمد بن عمرو بن حنان عن بقية به بلفظ: "من قال حين يصبح..." الحديث، وفي آخره: "وإن قالها حين يمسي...".
2- وكذا رواه البغوي في "شرح السنة" من طريق يزيد بن عبد ربه عن بقية به، هكذا رواه جماعة عن بقية بذكر الصباح والمساء، وهم:
1- محمد بن عمرو بن حنان، (وهو ثقة.
2- يزيد بن عبد ربه، (وهو ثقة).
3- عمرو بن عثمان، (وهو صدوق).
4- كثير بن عبيد، (وهو ثقة).
5- حيوة بن شريح، (وهو ثقة ثبت).
6- محمد بن مهران الجمال، (وهو ثقة، وفي السند إليه من لا يحتج به).
7- عبد الرحيم بن حبيب، (وقد سبق ذِكر حاله).
أما من رواه عن بقية مقتصرًا على ذِكْر الصباح فقط؛ فاثنان، وهما:
1- إسحاق بن راهوية، وإسحاق إمام.
2- لُوَين، محمد بن سليمان بن حبيب، وهو ثقة، وظاهر صنيع الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/376) أن لُويْنًا رواه بذكر الصباح والمساء، لكن الذي يظهر أنه تَجَوُّزٌ منه في العبارة، حيث صدَّر الكلام برواية: "من قال حين يصبح أو يمسي..." ثم ساق سنده، ثم قال: "فذكر الحديث مثله" اهـ فظاهر قوله: "مثله" أنه بلفظه سواء بسواء، والحافظ قد رواه من طريق محمد بن عبد الرحمن، وهو أبو الطاهر المخلص عن عبد الله بن محمد البغوي عن لوين، ومن نظر فيمن خرج الحديث من هذه الطريق لا يجد ذكر المساء، فالظاهر أن في عبارة الحافظ: "تَجَوِّزًا" لأنه لم يسُق لفظها في كتابه، حتى يترجح خلاف هذا، والله أعلم.
والنفس تميل إلى كون الحديث محفوظًا إلى بقية بذكر الصباح والمساء؛ لكثرة من رواه عنه كذلك، لاسيما وسيأتي الكلام على ما يشهد لذكر الصباح والمساء في روايات أو أحاديث أخرى، والله أعلم.
ز- ذكر الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/376) الحديث من طريق لوين عن بقية، ثم قال: لكن قال: "لا إله إلا أنت" ولم يقل: "وحدك لا شريك لك" إلا أن ذكر الجملة الثانية موجود في الروايات الأخرى، وهو محفوظ، فلا يضر عدم وجودها في هذه الرواية.
ح- الحديث يرويه بقية عن مسلم بن زياد مولى ميمونة أم المؤمنين – رضي الله عنها- وقد حكم بعض أهل العلم عليه بالجهالة، فقد قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام" (4/646) برقم (2205): "كان صاحب خَيْلِ عمر بن عبد العزيز، ولا يُعرف روى عنه غير بقية، وحاله مجهول" اهـ، واعتمد ذلك شيخنا الألباني – رحمه الله تعالى- في "الضعيفة" (3/144/برقم 1041).
ومن نظر في ترجمة مسلم هذا؛ وجد أمورًا ترفع من شأنه، فمن ذلك:
1- أنه روى عنه جماعة: بقية، وابن لهيعة، وإسماعيل بن عياش، انظر "تهذيب التهذيب". وهذا يرفع من جهالة عينه، ويبقى النظر في حاله.
2- أنه كان على خَيْل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله- وهذا يدل على أنه مؤتمن على بعض مال المسلمين، ولو كان عمر – رحمه الله- يعلم عنه ما يطعن في أمانته وصدقه؛ لما ولاّه بعض مال المسلمين، وقد لمَحَ هذا المعنى الحافظ ابن حجر - رحمه الله- فقال في "نتائج الأفكار" (2/377) متعقبًا قول ابن القطان: "ورُدَّ بأنه وُصِف بأنه كان على خيل عمر بن عبد العزيز، فدل على أنه أمين( )" وإذا كان ذلك كذلك؛ فيا ليت الحافظ رفع من شأنه في "التقريب" فإنه اقتصر على قوله: "مقبول" ومعلوم أن الرجل إذا كان معروف العين، وتولى عملاً عند عمر بن عبد العزيز ذاك العبد الصالح، والخليفة الراشد؛ فالأولى أن يقال فيه: "صدوق" لاسيما وسيأتي ما يقوي ذلك، والحافظ في "التقريب" في عدة تراجم يترجم بقوله: "صدوق" لمن ليس فيه تعديل، سوى أنه ذُكر في ترجمته أنه مؤذِّن فلان، أو جليس فلان من الصحابة مثلاً، وهذا نحو ما نحن فيه، والله أعلم.
3- مسلم هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" وإن كان ابن حبان يتوسع في توثيق المجاهيل؛ لكن هذا نذهب إليه إذا لم يكن في الترجمة ما يدل على صحة قوله، والأمر هنا بخلاف ذلك.
4- مسلم هذا قد أخرج له البخاري في "الأدب المفرد" هذا الحديث، وللبخاري نوع نقاوة في رجاله، وإن كان ذلك خارج الصحيح، نعم له في الصحيح شرط أشد وأنقى،ومما يدل على ذلك ما ذكره العلامة المحقق البصير المعلمي اليماني في "التنكيل" (1/123) ترجمة أحمد بن عبد الله أبي عبد الرحمن العكي، وكذا في (1/209) ترجمة إسماعيل بن عرعرة، بأن البخاري لا يروي في مصنفاته – الصحيح وغيره- بواسطة أو بغير واسطة إلا عمن يميز صحيح حديثه من سقيمه، وهذه مرتبة من يُقبل حديثه، وقد أطال المعلمي – رحمه الله- في تقرير ذلك، فارجع إليه.
فإن قيل: يوجد في رجال البخاري في "صحيحه" فضلاً عن غيره من مصنفات البخاري من لا يُحتج به؛ قلت: فيما يتصل بالدفاع الخاص عن البخاري ليس هذا موضعه، وفيما يتصل بالجواب العام؛ فالأصل قبول من احتج به البخاري حتى يظهر خلافه أو تقييده بحالة دون أخرى، ولم يظهر لنا جرح في مسلم هذا، فالأصل تمشيته، والله أعلم.
5- مسلم هذا ممن وفد على عمر بن عبد العزيز في قوم معه، كما ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (45/397/برقم 5302) ط/دار الفكر في ترجمة "عُمردن" ومعلوم أن الناس لا يُرْسلون وفدًا عنهم إلى الأمير إلا إذا كانوا من علياء قومهم، أو على الأقل من المعروفين، وإن كان في السند الذي ذكر الوفادة عنعنة بقية عنه.
6- الرجل مولى ميمونة أم المؤمنين – رضي الله عنها- ومعلوم أن الرجل إذا كان مولى لسيِّد صالح؛ فإنه لا يرضاه ولا يبقيه إذا كان في دينه ما يُشان من أجله، فكيف بأم المؤمنين ميمونة – رضي الله عنها-؟
كل هذا يدل على أن الرجل معروف عند بعض الكبار من صالحي الأمة، وهذا يزكيه في دينه، وفي مثل هذا لو قيل: صدوق، أي إذا لم يُعلم منه خلاف ذلك؛ لما كان بعيدًا عن الصواب، ولم أقف على جرح في الرجل، والحكم بالجهالة ليس جرحًا، إنما هو توقف عن قبول روايته لجهالته عند من يرى ذلك، فإذا وقف الباحث في أمر الرجل على ما يرفعه عن الجهالة، ويُثبت له العدالة الدينية؛ فالأصل قبوله حتى يرد خلاف ذلك من جرح في حفظه أو ضبطه، لاسيما إذا كان المرء مشهورًا، لأن الدواعي متوافرة للطعن فيه إذا كان ثَمَّ موجِبٌ أو مُسَوِّغٌ لذلك، والله أعلم.
7- وقد يُستدل على تقوية حال مسلم بن زياد بأن البخاري في "التاريخ الكبير" (4/159) قال في ترجمة سيار بن روح، أو روح بن سيار: له صحبة، يُعَدُّ في الشاميين، قال لي خطاب الحمصي أنا بقية عن مسلم بن زياد: رأيت أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنس بن مالك، فضالة بن عبيد، وأبا المنيب، وروح بن سيار أو سيار بن روح يرخون العمائم خلفهم..." الأثر.
فالبخاري احتج على صحبة سيار بن روح أو روح بن سيار بما قاله مسلم بن زياد، فلو لم يكن حجة عنده؛ لما استدل بقوله على صحبة أحد الرواة، ومعلوم أن إثبات الصحبة لأحد الرواة؛ فإنه يلزم من ذلك أحكام كثيرة، وما كان البخاري ليثبت ذلك بما لا يصح عنده، والله أعلم.
فإن قيل: يلزم من ذلك أن تقولوا: والبخاري لا يتوقف في عنعنة بقية، لأنه في سند البخاري إلى مسلم بن زياد بعنعنة بقية.
قلت: يلزم إثبات أن البخاري يعيب على بقية التدليس أولاً، ثم يؤتى بهذا الإيراد، فإني لم أقف على كلام للبخاري في بقية بتجريح أصلاً، فضلاً عن تصريحه بكونه مدلسًا.
فإن قيل: بقية مشهور بالتدليس، قلت: بقية اشتهر عند أكثر من جرحه من الأئمة بالرواية عمن أقبل وأدبر من الضعفاء والمجاهيل، ولا يلزم من ذلك تدليس، وإن كان المدلسون فعلوا ذلك، ومن الأئمة من وصفه بالتدليس، فهل هو عند البخاري ممن يروي عن المجاهيل دون تدليس، أو ممن يدلس، أو ممن لم يجرح أصلاً؟ ومع الاحتمال فلا ترجيح لهذا، أو ذاك، أو ذلك.
فإن قيل: إن البخاري لم يرو عن بقية في "الصحيح" مما يدل على تضعيفه إياه؛ قلت: ليس هذا بلازم كما لا يخفى من أجوبة العلماء عن البخاري في عدم إخراجه في "الصحيح" عن عدد من الثقات.
وعلى كل حال: فالإيراد بلزوم القول بتمشية البخاري عنعنة بقية، وهو مدلس عنده، إيراد مردود، والله أعلم.
وبهذا التقرير يظهر أن العلة الوحيدة في هذه الطريق: هي عنعنة بقية، وهي من العلل التي لا تمنع من تقويتها بطريق أخرى مثلها أو نحوها في الضعْف، والله أعلم.
ولو سلمنا أيضًا بكون مسلم بن زياد مجهولاً؛ فهي علة ليست بشديدة ولا فاحشة، فلا يُدْفع هذا الطريق أيضًا عن صلاحية الاستشهاد به.
الطريق الثانية في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه-:
من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن عبد الرحمن بن عبد المجيد السهمي عن هشام بن الغاز بن ربيعة عن مكحول عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من قال حين يصبح وحين يمسي ..." الحديث، وفيه: "أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين؛ أعتق الله نصفه، ومن قالها ثلاثًا؛ أعتق الله ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربعًا؛ أعتقه الله من النار"
أخرجه أبو داود (5/196) برقم (5069) دون قوله: "وحده لا شريك له" من روايته عن أحمد بن صالح عن ابن أبي فديك به.
وأخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" برقم (738) من طريق أحمد بن صالح وجعفر بن مسافر، كلاهما عن ابن أبي فديك به تامًّا.
وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "العرش" (ص361-363) برقم (23) عن يوسف بن يعقوب الصفار عن ابن أبي فديك به، إلا أنه ذكر فضل من قالها مرة واحدة، ومن قالها أربعًا، ولم يذكر المرتين والثلاث.
وقد أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (2/برقم 1542) من طريق أحمد بن صالح وجعفر بن مسافر عن ابن أبي فديك به، وكذا في (4/برقم 3369) من طريق أحمد بن صالح وجعفر بن مسافر به، إلا أنهما قالا في هذه الرواية: "ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن عبد الحميد" بتقديم الحاء على الميم، لا "ابن عبدالمجيد" بتقديم الميم على الجيم، وقد أخرجه أيضًا في "الدعاء" (2/برقم 297) من طريق أحمد بن صالح وعبد الرحمن بن أبي جعفر الدمياطي عن ابن أبي فديك به.
وأخرجه أبو الحسن علي بن عمر الحربي في "الفوائد المنتقاة عن الشيوخ العوالي" (ص296) برقم (59) وفيه "عبد الرحمن بن عبد الحميد" وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/185) من طريق محمد بن رافع وجعفر بن مسافر، وفيه "عبد الرحمن بن حميد" وليس "عبد الحميد" ولعله تحريف من أحد الرواة، أو النُّساخ، أو الطباعة.
وأخرجه المقدسي في "الترغيب في الدعاء والحث عليه" (ص426) برقم (94) من طريق عبد العزيز بن يحيى أبي القاسم الأويسي عن ابن أبي فديك به، وليس فيه: "وأن محمدًا عبدك ورسولك".
وأخرجه الضياء في "المختارة" (7/225/برقم 4664) من طريق يحيى بن المغيرة عن أبي فديك به.
وأخرجه المزي في "تهذيب الكمال" (17/256) مرتين من طريق أحمد بن صالح وأبي الأزهر أحمد بن الأزهر بن منيع، كلاهما عن ابن أبي فديك به.
وأخرجه الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/375) من طريق جماعة، وهم: أحمد بن صالح، وسريج بن يونس، ويحيى بن المغيرة، وعبد الرحمن بن أبي جعفر، كلهم عن ابن أبي فديك به، وذكر أن الخرائطي أخرجه في "مكارم الأخلاق" من طريق عبد القدوس بن يحيى عن ابن أبي فديك به، انظر "نتائج الأفكار" (2/376) وذكر الحافظ أن السند في هذه الرواية فيه: "عبد الحميد" بتقديم الحاء على الميم، وعزاه أيضًا إلى الفريابي، وهذه الرواية ليست موجودة في الجزء المطبوع بين يدي من "مكارم الأخلاق" للخرائطي، وقد ذكر محقق "الفوائد المنتقاة" الشيخ تيسير بن سعد أبي حيمد في حاشية (ص297) أن الرواية هذه موجودة في بعض المطبوعات من نسخ "مكارم الأخلاق" فارجع إلى تفصيله في ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وهذا سند فيه بحث ونظر:
أما محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك فصدوق لا بأس به.
وأما شيخه عبد الرحمن بن عبد المجيد: فقد اختلفت تلامذة ابن أبي فديك في تسمية الأب: هل هو عبد المجيد، بتقديم الميم على الجيم، أو عبد الحميد بتقديم الحاء على الميم؟ ومن نظر فيما سبق من تخريج للحديث؛ تبين له أن الذين رووه بجعل الوالد "عبد المجيد" جماعة، وهم:
1- أحمد بن صالح المصري، (وهو ثقة حافظ).
2- يوسف بن يعقوب الصفار، (وهو ثقة).
3- جعفر بن مسافر، (وهو صدوق ربما أخطأ).
4- يحيى بن المغيرة، (وهو صدوق).
5- أحمد بن الأزهر أبو الأزهر، (وهو صدوق).
6- عبد الرحمن بن أبي جعفر الدمياطي، ذكره الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (5/615) وقال: له مسائل تُسمى "الدمياطية" اهـ مما يدل على كونه مشغولاً بالعلم، فالأصل الاحتجاج به، حتى يظهر خلاف ذلك، ثم وقفتُ عليه في "الديباج المذَهَّب في معرفة بيان علماء المذهب" (ص148) في ترجمته، وترجمته تدل على أنه من أهل العلم، ولا ينزل عن درجة الاحتجاج به، كما رجحته آنفًا، فالحمد لله رب العالمين.
7- عبد العزيز بن يحيى أبو القاسم الأويسي (ولم أهتد لترجمته) وأما عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو الأويسي أبو القاسم؛ فليس هو المقصود، فإنه لم يلحقْه الإمام مسلم، وبقي إلى سنة (220) ومسلم – رحمه الله- توفي سنة (261) وتلميذ الأويسي الذي نحن بصدد البحث عنه، والذي في هذا السند: هو أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، توفي سنة (354) انظر "تاريخ بغداد" و "تذكرة الحفاظ" فالبَوْن بينهما واسع، والأويسي الذي في السند متأخر عن هذا.
وهناك من رواه بجعل الوالد عبد الحميد، وهم:
1- أحمد بن صالح المصري، (وهو ثقة حافظ).
2- وجعفر بن مسافر، (وهو صدوق ربما أخطأ).
ويظهر من هذا روايتهما الحديث على الوجهين، وروايتهما بهذا وذاك عند الطبراني بإسناد واحد، فهل الطريقان محفوظان عن ابن أبي فديك عنهما؟ أعني أن يكون لروايه ابن أبي فديك شيخان، وهما: عبد الرحمن بن عبد المجيد وعبد الرحمن بن عبد الحميد، أم حصل تصحيف؟ كل ذلك محتمل، وأما جعفر بن مسافر فهناك من رواه عنه كذلك أيضًا غير عمرو بن أبي الطاهر بن السرح – تلميذه عند الطبراني في الوجهين السابقين- وهو إسحاق بن أحمد، شيخ أبي نعيم الأصبهاني، وترجمته في "تاريخ أصبهان" (1/222) ووصفه أبو نعيم بالتاجر، وأخرج له في "المستخرج على مسلم" وتوفِّي في ربيع الأول سنة (368) فالرجل معروف، لكن تبقى حاله في الحديث محل تردد، وإن كانت الرواية عنه في "المستخرج" قد تنفعه، لكن في النفس شيء من ترجيح الاحتجاج به لمجرد ذلك، إلا أنه لا بأس بالانتفاع بهذه الرواية في جعْل ذِكْر جعفر بن مسافر في هذه القائمة مما له وجه.
3- صالح بن مسمار الرازي، (وهو صدوق).
4- محمد بن رافع، (وهو ثقة) وفي السند إليه إسماعيل بن إبراهيم القطان، وترجمته في "تاريخ الإسلام" للذهبي (7/290) روى عنه جماعة، ولم أقف على توثيق له، فمثله يصلح في الشواهد والمتابعات لا الاحتجاج.
5- سريج بن يونس، (وهو ثقة).
6- عبد القدوس بن يحيى، (ولم أهتدِ لترجمته).
فها هم الذين رووه بهذا الوجه وبذاك، فما هو الراجح؟
قد يقال: من رواه من طريق عبد الرحمن بن عبد المجيد أكثر وأرجح، وإن كان الفارق يسيرًا.
وقد يقال: ما المانع من كون الحديث على الوجهين، لوجود نوع من التكافؤ في الترجيح، إذ الفارق ليس بذاك الكبير عددًا ووصْفًا؟
وقد يقال: حصل تصحيف، لكن يبقى سؤال: ما هي الرواية الأصلية، وما هي الرواية المصحّفة؟ وقد يجاب عن هذا السؤال الأخير بما يلي: عبد الرحمن بن عبد المجيد مجهول لا يُعرف، فلماذا لا يكون السبب في جهالته أن اسمه قد صُحِّف بغير المعروف به؟ وعلى ذلك فيكون الأصل: عبد الرحمن بن عبد الحميد، فإنه راوٍ معروف، وهو عبد الرحمن بن عبد الحميد بن سالم المهري أبو رجاء المصري المكفوف، وهو ثقة، إلا أنه عمي فاضطرب بعد ما عمي.
وقد يرجح هذا أن أبا رجاء المكفوف هذا خال والد عمرو بن أبي الطاهر بن السرح، فهو خال أبي الطاهر، فهل يقال: إن عمرو بن السرح يروي حديث رجل من قرابته؟ محتمل.
وإذا كان كذلك فإن الحديث يكون أقوى حالاً مما لو كان من طريق المجهول عبد الرحمن بن عبد المجيد، لكن الأمر لا يخلو من تردد، إلا أن التردد بين كون الحديث من طريق فيه رجل مجهول أو مقبول، أحسن حالاً من الجزم أو الترجيح بأنه من طريق المجهول فقط، لأن احتمال السلامة من علة الجهالة في الأمر الأول قائم، بخلاف نفي هذا الاحتمال، كما لا يخفى.
ولعله لذلك اختلفت كلمة بعض أهل العلم في ترجيح أحد الوجهين على الآخر:
فقد رجَّح المنذري أنه من طريق عبد الرحمن بن عبد الحميد، كما نقله الحافظ عنه في "نتائج الأفكار" (2/376) بل قال: "وجزم به صاحب الأطراف" يعني المزي في "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" مع أن الذي وجدته في "تحفة الأشراف" (1/410) خلاف هذا، فقد قال المزي بعد أن ذكر الحديث من طريق أحمد بن صالح عن عبد الرحمن بن عبد المجيد السهمي: "ويقال: ابن عبد الحميد بن سالم أبي رجاء المكفوف عن هشام بن الغاز..."اهـ فظاهر كلامه أنه لا يرجح هذا القول – فضلاً عن الجزم به- لتصديره إياه بصيغة التمريض، فيُنظر ما هو دليل الحافظ على ما قاله، والله أعلم.
ولعله لقوة الخلاف في ترجيح أحد الأمرين قال الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/376): "فإن كان كذلك – أي ترجح أنه عبد الحميد- فهو مصري صدوق، لكن تغير بأخرة، وإن كان ابن عبد المجيد؛ فهو شيخ مجهول" اهـ هكذا، ولم يُرجِّح.
لكن على أي حال فالحديث من هذه الطريق لا يُدْفَع عن درجة الاستشهاد به، وتقوية الطريق الأولى التي ليس فيها إلا تدليس بقية به، والله أعلم.
- وأما هشام بن الغاز بن ربيعة شيخ هذا الراوي المختلف فيه فثقة.
- وأما مكحول شيخ هشام، فثقة مشهور، إلا أنه كثير الإرسال، وقد أعله بعض أهل العلم بمكحول من عدة وجوه:
1- أن مكحولاً لم يسمع من أنس، نقله الحافظ في "تهذيب التهذيب" (4/149) وعزاه إلى "الأوسط" و "الصغير" للبخاري.
ويُرَدُّ عليه بأن الذي في "التاريخ الكبير" (8/21) أن البخاري أثبت سماعه من أنس، وكذا في "الأوسط" (3/146) فقد نقل البخاري كلام أبي مسهر في سماع مكحول من أنس، ولم يتعقبه، وظاهر ما في "الأوسط" أنه كلام أبي مسهر، بخلاف "الكبير" فإنه ظاهر في أنه من كلام البخاري، وقال أبو زرعة ابن العراقي في "تحفة التحصيل" (ص315): "قال البخاري: إنه سمع من أنس، وأبي مرة، وواثلة، وأم الدرداء، نقلتُ ذلك جميعه من خط والدي، أبقاه الله تعالى" اهـ، فالظاهر أن ما في "تهذيب التهذيب" قد تحرَّف والله أعلم.
2- وهناك من أعل الحديث بأن مكحولاً مدلس، وقد عنعن، ويجاب عنه بأن مكحولاً اشتهر بالإرسال، وفرق بين الإرسال والتدليس، وإن كان من الأئمة والحفاظ من يطلق الإرسال على التدليس والعكس.
والذين رموه بالتدليس جماعة:
1- ابن حبان، كما في "الثقات" (5/447) وقد قال: "ربما دلس" وهذا يدل على قلة تدليسه، ومن كان كذلك فالأصل تمشية عنعنته حتى تظهر النكارة.
2- الذهبي، كما في "الميزان" (4/177) وقد أطلق القول فيه بأنه كان يدلس، فقال: "قلت: هو صاحب تدليس" وتعقبه الحافظ في "طبقات المدلسين" (ص156) فقال: "ولم أره للمتقدمين إلا في قول ابن حبان" اهـ أي أنه لو كان صاحب تدليس؛ لاشتهر بذلك عند المتقدمين، ولو اشتهر ذلك عندهم؛ لنقله غير ابن حبان، والأمر على خلاف ذلك.
3- الحافظ، فقد ذكره في "طبقات المدلسين" في المرتبة الثالثة، وهي مرتبة من أكثر من التدليس، فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع... كما ذكر في مقدمة كتابه، مع أن كلامه السابق في تعقب الحافظ الذهبي يدل على أنه لم يقف على كلام للأئمة في ذلك إلا على كلام ابن حبان.
وقد سبق أن قول ابن حبان إنما يدل على قلة وقوع ذلك منه، والذهبي نفسه ذكر في "تذكرة الحفاظ" (1/107) أن مكحولاً كان يرسل كثيرًا ويدلس عن أبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، وعائشة، والكبار" اهـ ومعلوم أن أنس بن مالك ليس من كبار الصحابة، بل هو من صغارهم، وممن تأخرت وفاته بعدهم، فلو سلمنا بتدليسه عن الكبار؛ فأنس ليس ممن يدلِّس عنهم مكحول، وعلى كل حال: فالراجح أن الإعلال هنا بعلة العنعنة إعلال عليل، والله أعلم.
ولو سلمنا بكون مكحول مدلسًا، وقد عنعن، فلماذا لا يقال: هذه علة خفيفة، وما في طريق بقية علة خفيفة أيضًا، فالطريقان يتقويان ببعضهما؟
فإن قيل: إن شيخنا الألباني – رحمة الله عليه- قد منع من ذلك في "الضعيفة" (3/145/برقم 1041) لاحتمال أن يكون مكحول – المدلس في نظره- أخذه عن مسلم بن زياد – ذاك المجهول عنده أيضًا- أو غيره، فيرجع الطريقان حينئذٍ إلى كونهما من طريق واحدة، لا يُعْرف تابعيُّها عينًا أو حالاً، ثم قال – رحمه الله-: فمن جوّد إسناده أو حسَّنه لعله لم يتنبه لهذا اهـ.
قلت: لم يُذْكر مسلم هذا في مشايخ مكحول – فيما أعلم- حتى يقال: إنه يحتمل أن يكون روى هذا الحديث عنه، فيعود الحديث إلى كونه من طريق واحدة.
ثم إن قول شيخنا – رحمه الله-: "فيُحتمل أن يكون بينه – يعني مكحولاً- وبين أنس مسلم بن زياد هذا أو غيره" اهـ، فتأمل قوله: "أو غيره" فإن هذا يدل على أن ما ذكره شيخنا هنا هو مجرد احتمال، ولو فتحنا الباب للاحتمالات لربما ما صح لنا حديث.
فإن قيل: هناك احتمال قوي يؤخذ في الاعتبار، وهناك احتمال ضعيف، لا يُلتفت إليه.
قلت: وما نحن فيه من جملة الاحتمالات التي لا تقوى في النفس، لأن مسلم بن زياد لم يُذكر في شيوخ بقية – فيما أعلم والعلم عند الله تعالى- ولو فرضنا أنه قد ذُكِر فيهم: فهل أكثر عنه حتى يقوى احتمال الأخذ عنه في هذا الموضع، إلى درجة الاشتباه في الأمر؟
فإن قيل: إن الطريق إلى مسلم بن زياد لا تصح لعنعنة بقية؛ فالجواب: أن العنعنة من جملة العلل الخفيفة لا الشديدة، وهذا يجعلها مما ينجبر بنحوها، ولو فتحنا هذا الباب؛ لما قوينا سندًا فيه أكثر من علة خفيفة، وهذا بخلاف ما صرح به شيخنا – رحمه الله- في جوابه عليّ فيما ألقيتُه عليه من أسئلة حديثية سنة 1416هـ في مدينة "عمان" حفظها الله وجميع بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه.
وقد أشار الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/376) إلى علة أخرى في هذا الطريق، فقال في رواية ابن عبد المجيد أو ابن عبد الحميد الراوي عن هشام بن الغاز عن مكحول عن أنس به: "وقد خولف – أي عبد الرحمن هذا- في اسم شيخ شيخه، أخرجه تمام في "فوائده" عن طريق أبي بكر عبد الله بن يزيد الدمشقي عن هشام بن الغاز، فقال: عن أبان بن أبي عياش بدل مكحول" اهـ.
قلت: الحديث أخرجه تمام في "فوائده" (1/330/برقم 844) وأبو بكر هو عبد الله بن يزيد المقرئ، قال الحافظ في "التقريب" و "نتائج الأفكار": ضعيف، وترجمته أيضًا في "تاريخ دمشق" (33/377) تدل على أن هناك من أفحش فيه القول.
ومعنى الإعلال بما أشار إليه الحافظ: أنه لو صح ذِكْر أبان بن أبي عياش المتروك، وأنه الراجح في هذا السند؛ لسقط هذا السند عن درجة الاستشهاد به، وإلا فيبقى رافدًا يقوي به الظن في ثبوت الحديث.
وعلى كل حال: فقد اخْتُلف على هشام بن الغاز، فرواه الضعيف هذا عنه عن أبان المتروك، ورواه عبد الرحمن الذي أسوأ أحواله أنه مجهول، بل قد يكون هو ابن عبد الحميد الذي قد يحتج به، فرواه عن هشام عن مكحول الثقة، فأي الرجلين أولى بالقبول؟
لاشك أن المجهول – مع التذكير باحتمال أنه قد يكون ذاك المعروف- لم يُجرّح، والضعيف قد جُرِّح، بل بعضهم أفحش فيه القول، وأحسن أحواله أنه لا يُحتج به، فالذي لم يُجرح – مع القرائن السابقة التي تحف المقام هنا- إن لم يكن أولى من المجرَّح فهو لا ينزل عن رتبته، وعلى ذلك فلا أرى أن ذِكْرَ أبان المتروك في هذا السند علة مُقْصِية لهذه الطريق عن الانتفاع
بها في تقوية الطريق الأولى، والتي فيها من العلل فقط عنعنة بقية، والحديث بذلك يكون حسنًا لغيره، لاسيما وقد بقيت روايات أخرى، والله أعلم.
الطريق الثالثة من حديث أنس:
من طريق أبي أيوب سليمان بن عبد الرحمن – وهو ابن بنت شرحبيل- حدثنا مطر بن العلاء الفزاري حدثني أبو سليمان الحرستاني، ويقال: الخراساني، قال: أتيتُ أنس بن مالك، فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من قال حين يصبح وحين يمسي أربع مرات: اللهم إني أُشْهدك، وملائكتك، وحملة عرشك، وجميع خلْقك: أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدًا عبدك ورسولك، أربعًا غدوة، وأربعًا عشيًّا، ثم مات؛ دخل الجنة".
أخرجه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (66/279) وفي رواية: "كان والدي مع أنس بن مالك بنيسابور إذْ كان عليها واليًا أميرًا، فتُوفِّي والدي، وجعل وصيته إلى أنس، وقد احتلمتُ، فدفع إليَّ ما ترك أبي، فسمعته يقول: ..... فذكره.
وهذا سند لا يُحتج به: أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن ثقة في نفسه، إنما يعاب عليه كثرة روايته عن المجهولين.
وأما مطر بن العلاء فقد قال أبو حاتم: شيخ، أي لا يُحتج به، وأبو سليمان الحرستاني، ويقال: الخراساني مجهول الحال، ومع ذلك فهذا السند لا يُدْفع عن الاستشهاد به.
بقي أن يقال: في هذا المتن اختلاف عن المتن الذي رواه بقية ومكحول، فإن في الطريقين السابقين بيان التجزئة في العتق على أربعة أجزاء، وفي هذا: "دخل الجنة" قلت: نعم، من جهة اللفظ فهناك نوع مخالفة، ومن جهة المعنى فقد يقال: من أُعتق كله من النار؛ أُدخل الجنة، ومع ذلك فاللفظ الأول أرجح، والله أعلم
[/arb]
.