فَتَقَدَّمْتُ إِلَى فُسْطَاطِهِ ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ يَخْضِبُ بِالْوَسْمَةِ ، فَقُلْتُ : أَخْلِنِي مَعَكُمْ ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ ، فَبَعُدُوا ، فَقُلْتُ : أَنْتَ أَبُو صَالِحٍ الْبَلْخِيُّ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ أَنَا أَبُو صَالِحٍ الْبَلْخِيُّ ، الْوَيْلُ لِي.
فَقُلْتُ لَهُ : إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : إِنِّي كُنْتُ فِي شَبَابِي أَشْرَبُ الشَّرَابَ ، فَانْصَرَفْتُ لَيْلَةً سَكْرَانَ ، فَقَرَعْتُ الْبَابَ ، وَطَالَ وُقُوفِي بِهِ ، فَفَتَحَتْ لِي وَالِدَتِي وَمَعِي خِنْجَرٌ ، فَوَجَأْتُهَا بِهِ وَجْأَةً ، فَقَتَلْتُهَا ، فَقُلْتُ لَهُ : تَبًّا لَكَ " # 7 - 141 وقد رُوِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَلَى وَجْهٍ طَرِيفٍ ، فأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُقْرِئِ ، قَالَ : أَنْبَأَ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعُكْبَرِيِّ ، قَالَ : أَنْبَأَ أَبُو سَهْلٍ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ : أَنْبَأَ أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍإِجَازَةً ، قَالَ : أَنْبَأَ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زُرَيْقٍ الْأَوَانِيُّ ، قثنا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، قثنا إِسْحَاقُ بْنُ زَيْدٍ الْخَطَّابِيُّ ، قثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضَّبْعِيُّ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ، قَالَ : " بَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَقَدْ أَعْجَبَنِي كَثْرَةُ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ ، فَقُلْتُ : يَالَيْتَ شِعْرِي مِنَ الْمَقْبُولِ مِنْهُمْ فَأَهَنِّيهِ ، وَمِنَ الْمَرْدُودِ مِنْهُمْ فَأُعَزِّيهِ ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أُرِيتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّ قَائِلًا ، يَقُولُ : مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ تَتَفَكَّرُ فِي الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ ، قَدْ وَاللَّهِ غَفَرَ اللَّهُ لِلْقَوْمِ أَجْمَعِينَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى ، الأَسْوَدِ وَالأَبْيَضِ ، الْعَرَبِيِّ وَالأَعْجَمِيِّ ، مَا خَلا رَجُلا وَاحِدًا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ غَضْبَانُ ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ حَجَّهُ ، وَضَرَبَ بِهِ وَجْهَهُ.
قَالَ مَالِكٌ : فَنِمْتُ بِلَيْلَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ، وَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ ، رَأَيْتُ فِي مَنَامِي مِثْلَ ذَلِكَ ، غَيْرَ أَنَّهُ قِيلَ لِي ، وَلَسْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ ، بَلْ هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ مَدِينَةِ تُدْعَى بَلْخَ ، يُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْبَلْخِيُّ : اللَّهُ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ حَجَّهُ ، وَضَرَبَ بِهِ وَجْهَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ قَبَائِلَ أَهْلِ خُرَاسَانَ ، فَقُلْتُ : أَفِيكُمُ الْبَلْخِيُّونَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ.
فَأَتَيْتُهُمْ ، فَسَلَّمْتُ ، وَقُلْتُ : أَفِيكُمْ رَجُلٌ ، يُقَالُ لَهُ : مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ ، قَالُوا : بَخٍ بَخٍ يَا مَالِكُ ، تَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ لَيْسَ بِخُرَاسَانَ أَعْبَدُ ، وَلَا أَزْهَدُ ، وَلَا أَقْرَأُ مِنْهُ ، فَعَجِبْتُ مِنْ جَمِيلِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ فِي مَنَامِي ، فَقُلْتُ : أَرْشِدُونِي إِلَيْهِ ، فَقَالُوا : إِنَّهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَصُومُ النَّهَارَ ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ ، وَلَا يَأْوِي إِلَّا الْخَرَابَ نَظُنُّهُ فِي خَرَابِ مَكَّةَ ، فَجَعَلْتُ أَجُولُ فِي الْخَرَابَاتِ ، وَإِذَا بِهِ قَائِمٌ خَلْفَ جِدَارٍ ، وَإِذَا يَدُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةٌ مُعَلْقَةٌ فِي عُنُقِهِ ، وَقَدْ نَقَبَ تَرْقُوَتَهُ ، وَشَدَّهَا إِلَى قَيْدَيْنِ غَلِيظَيْنِ فِي قَدَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ وَسَاجِدٌ ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهَمْسِ قَدَمَيَّ انْفَتَلَ ، وَقَالَ : مَنْ تَكُونُ ؟ قُلْتُ : مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ .
قَالَ : يَا مَالِكٌ ، فَمَاذَا جَاءَ بِكَ إِلَيَّ ، رَأَيْتُ رُؤْيَا ؟ اقْصُصْهَا عَلَيَّ ، قُلْتُ : اسْتَحِي أَنْ أَسْتَقْبِلُكَ بِهَا ، قَالَ : لَا تَسْتَحِي.
فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ ، فَبَكَى طَوِيلًا ، وَقَالَ : يَا مَالِكُ ، هَذِهِ الرُّؤْيَا تُرَى لِي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، يَرَاهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ رَجُلٌ زَاهِدٌ مِثْلُكَ ، إِنِّي مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
قُلْتُ : بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ ، وَالأَرْضِ , وَالْجِبَالِ ، وَالْعَرْشِ ، وَالْكُرْسِيِّ.
قُلْتُ : حَدَّثَنِي أُحَذِّرُ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ ، قَالَ : يَا مَالِكُ ، كُنْتُ رَجُلًا أُكْثِرُ شُرْبَ هَذَا الْمُسْكِرَ ، فَشَرِبْتُ يَوْمًا عِنْدَ خِدْنٍ لِي ، حَتَّى إِذَا ثَمَلْتُ وَزَالَ عَقْلِي أَتَيْتُ مَنْزِلِي ، فَدَخَلْتُ ، فَإِذَا وَالِدَتِي تَحْصِبُ تَنُّورًا لَنَا قَدْ أَبْيَضَ جَوْفِهِ ، فَلَمَّا رَأَتْنِي أَتَمَايَلُ بِسُكْرِي ، أَقْبَلَتْ تَعِظُنِي ، تَقُولُ : هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ ، وَأَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يُصْبِحُ النَّاسُ غَدًا صُوَّامًا ، وَتُصْبِحُ أَنْتَ سَكْرَانًا ، أَمَا تَسْتَحِي اللَّهَ ؟ فَرَفَعَتْ يَدِي ، فَلَكَزْتُهَا ، فَقَالَتْ : تَعِسْتَ ؟ فَغَضِبْتُ مِنْ قَوْلِهَا ، فَحَمَلْتُهَا بِسُكْرِي ، فَرَمَيْتُ بِهَا فِي التَّنُّورِ ، فَمَا رَأَتْنِي امْرَأَتِي حَمَلَتْنِي ، فَأَدْخَلَتْنِي بَيْتًا ، وَأَجَافَتِ الْبَابَ فِي وَجْهِي ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ ، وَذَهَبَ سُكْرِي ، دَعَوْتُ زَوْجَتِي لِتَفْتَحَ الْبَابَ ، فَأَجَابَتْنِي بِجَوَابٍ فِيهِ جَفَاءٌ ، فَقُلْتُ : وَبِكِ مَا هَذَا الْجَفَاءُ الَّذِي لَمْ أَعْرِفْهُ مِنْكِ ؟ قَالَتْ : تَسْتَأْهِلُ أَنْ لا أَرْحَمَكَ.
قُلْتُ : وَلِمَ ؟ قَالَتْ : قَدْ قَتَلْتَ أُمَّكَ ، رَمَيْتَ بِهَا فِي التَّنُّورِ ، فَقَدِ احْتَرَقَتْ ، فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ لَمْ أَتَمَالَكْ أَنْ قَلَعْتَ الْبَابَ ، وَخَرَجْتُ إِلَى التَّنُّورِ ، فَإِذَا هِيَ فِيهِ كَالرَّغِيفِ الْمُحْتَرِقِ ، فَالْتَفَتُّ ، فَإِذَا قَدُومٌ ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ ، فَقَطَعْتُهَا بِيَدِي الشِّمَالِ ، وَنَقَبْتُ تَرْقُوَتِي ، فَأَدْخَلْتُ فِيهَا السِّلْسِلَةَ ، وَقَيَّدْتُ قَدَمِي بِهَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ ، وَكَانَ مِلْكِي ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ ، فَتَصَدَّقْتُ بِهَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ ، وَأَعْتَقْتُ سِتًّا وَعِشْرِينَ جَارِيَةً ، وَثَلَاثَةَ وَعِشْرِينَ عَبْدًا ، وَوَقَفْتُ ضِيَاعِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَنَا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَصُومُ النَّهَارَ ، وَأَقُومُ اللَّيْلَ لَا أُفْطِرُ إِلَّا عَلَى قَبْضَةِ حِمَّصٍ ، وَأَحُجُّ الْبَيْتَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَيَرَى لِي فِي كُلِّ سَنَةٍ رَجِلٌ عَالِمٌ مِثْلُكَ مِثْلَ هَذِهِ الرُّؤْيَا ، وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
قَالَ مَالِكُ : فَنَفَضْتُ يَدِي فِي وَجْهِي ، وَقُلْتُ : يَا مَشْئُومُ ، كِدْتَ تُحْرِقُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا بِنَارِكَ ، وَغِبْتُ عَنْهُ بِحَيْثُ أَسْمَعُ حِسَّهُ ، وَلَا أَرَى شَخْصَهُ.
فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، وَجَعَلَ يَقُولُ : يَا فَارِجَ الْهَمِّ ، وَكَاشِفَ الْغَمِّ ، مُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ ، أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، لَا تَقْطَعْ رَجَائِي ، وَلَا تُخَيِّبْ دُعَائِي.
قَالَ مَالِكُ : فَأَتَيْتُ مَنْزِلِي ، فَنِمْتُ ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِي ، يَقُولُ : يَا مَالِكُ ، لَا تُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَلَا تُؤَيِّسْهُمْ مِنْ عَفْوِهِ ، إِنَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ فَاسْتَجَابَ دَعْوَتَهُ ، وَأَقَالَهُ عَثْرَتَهُ ، اغْدُ إِلَيْهِ ، فَقُلْ لَهُ : إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالأَخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَنْتَصِرُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقُرَنَاءِ ، وَيَجْمَعُ بَيْنَكَ يَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ وَبَيْنَ أُمِّكَ ، فَيَحْكُمُ لَهَا عَلَيْكَ ، وَيَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَقُودُونَكَ بِسَلاسِلَ غِلاظٍ إِلَى النَّارِ ، فَإِذَا وَجَدْتَ طَعْمَهَا بِمِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدَّنْيَا وَلَيَالِيهَا ، آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي لَا يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ عَبْدُ مِنْ عَبِيدِي ، وَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حُرِّمَتْ ، إِلَّا أَذَقْتُهُ طَعْمَ النَّارِ ، وَلَوْ كَانَ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمُ ، ثُمَّ أُطْرِحُ فِي قَلْبِ أُمِّكَ الرَّحْمَةَ ، فَأُلْهِمُهَا أَنْ تَسْتَوْهِبَكَ مِنِّي ، فَأَهِبُكَ لَهَا فَتَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَيْهِ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِرُؤْيَايَ ، فَكَأَنَّمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ حَصَاةً طُرِحَتْ فِي طَسْتِ مَاءٍ ، فَمَاتَ ، فَكُنْتُ فِيمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ " # 3